عالم
الاقتصاد الأميركي يدفع ثمن أزمة النظام السياسي
رغم التسوية الموقّتة لرفع سقف الدين وإنهاء الشلل الحكومي
الاقتصاد الأميركي يدفع ثمن أزمة النظام السياسي
في اللحظة الأخيرة تجنّبت الولايات المتحدة الوقوع في كارثة مالية، بعدما انتهت المواجهة بين الرئيس باراك أوباما والجمهورييّن في الكونغرس، مما أتاح المجال أمام عودة الموظّفين الفيديراليين الى أعمالهم بعد إجازات غير مدفوعة منحت لهم قسراً، إثر رفض الجمهوريين الموافقة في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الماضى، على الموازنة الأميركية للسنة المالية التي بدأت في ذلك التاريخ.
استمرّت المواجهة وعضّ الأصابع بين الرئيس باراك أوباما، مدعوماً بحزبه الديمقراطي والحزب الجمهوري، لا سيما الأعضاء المتشدّدين في داخله المعروفين بانتمائهم الى ما يطلق عليه «حزب الشاي»، 16 يوماً. ولو استمرّت المواجهة لساعات فقط لكانت الولايات المتحدة غير قادرة على دفع مستحقّاتها من الديون، الأمر الذي كان سينعكس على تصنيفها الإئتماني، ويتسبّب بتدهور في مكانتها المالية شبيه، إن لم يكن أقسى، بما تعرّضت له العام 2008. ولو تجاوزت الولايات المتحدة قدرتها على رفع سقف الدين لكانت حصلت الكارثة.
وانتهى المأزق بتراجع الجمهوريّين عن مواقفهم بتعديل قانون «أوباما كير» للعناية الصحيّة، وبموافقتهم على تمويل العمليّات المالية للحكومة حتى 15 كانون الثاني (يناير) المقبل، وعلى رفع سقف الدين حتى 15 شباط (فبراير) المقبل، وصادق مجلس الشيوخ، الذي يضمّ غالبية ديمقراطية، على قانون بهذا المعنى، ومن ثم تلاه مجلس النواب الذي يضمّ غالبية جمهورية. ويمهّد الاتّفاق الجديد بين الديمقراطيّين والجمهوريين الطريق، أمام إجراء المزيد من المفاوضات بين الجانبين حول الموازنة في الأسابيع المقبلة، على رغم أن المتشدّدين داخل الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ ومجلس النواب، جدّدوا تعهّدهم بخوض جولة جديدة من المواجهة، من أجل خفض النفقات وتغيير قانون «أوباما كير». وسارع السناتور الجمهوري جون ماكين، الى حضّ زملائه في الحزب على ضمان أن المحادثات المقبلة مع إدارة أوباما، لن تؤدّي الى مخاطر تهدّد الحكومة مجدّداً.
ورأى أن الجمهوريّين «يجب أن يركّزوا على البنود غير المقبولة في قانون أوباما كير». وقال المتشدّدون الجمهوريون إن المواجهة التي أدّت الى الشلل الحكومي، لم تكن من دون فائدة، على رغم من عدم قدرتهم على إلغاء التمويل لـ«أوباما كير»، أو تأخير دخول القانون حيّز التنفيذ. وقال النائب الجمهوري عن ولاية ساوث كارولاينا ميك مولفاني: «لقد قاتلنا من أجل العدالة... وعندما تقاتل من أجل الأهداف التي تؤمن بها، فإنك ستجد نفسك على الجانب الصحيح من الأمور».
لكن ذلك لا يلغي في نظر المحلّلين أن الخسائر التي مني بها الجمهوريون خلال المواجهة مع الديمقراطيّين، كانت أكبر بكثير من المكاسب التي حقّقوها. فهم على العموم أساؤوا الى موقفهم على المستوى الوطني، من خلال الشلل الذي تسبّبوا به لنحو مليون موظّف فيديرالي، ثم إنهم أخفقوا في الحصول على تنازلات من الديمقراطييّن، في ما يتعلق بالقانون قبل أن يتراجعوا عن موقفهم، من دون شروط خشية أن يتعرّضوا لمزيد من الضرر. وقال السناتور الجمهوري ليندسي غراهام: «إذا ما تلفتّ الى الوراء خلال الأسبوعين الماضيين، فإنه يجب وصف ذلك بزمن الفرصة الكبرى الضائعة». ومعلوم عن غراهام أنه من صنف الجمهوريّين الذين كانوا يقولون، بأن دعم قانون الرعاية الصحيّة سيتقلّص فقط، عندما يدرك الرأي العام كم هو كارثي بالنسبة إليهم. وتدليلاً على خيبة الجمهوريين، أضاف، لقد كان هذان الأسبوعان من الأفضل للحزب الديمقراطي في التاريخ الحديث، لأن الحزب لم يكن في دائرة الضوء، ولم يكن عليه إيضاح أفكاره».
وبعد إنهاء الأزمة التي شلّت واشنطن، ودبّت الرعب في الولايات المتحدة التي تنظر بشك عميق حيال زعمائها السياسيّين، ينبغي على الجمهوريين القتال من أجل الردّ على أسئلة أساسية، تتعلق بالسبب والتأثير الذي تركته الأسابيع الأخيرة. وهم مختلفون حيال كيف سيخرجون من الأزمة. والكثيرون منهم لا يدركون كيف أخفقوا في الحؤول دون الهزيمة التي لحقت بهم. ولا تزال السناتورة الجمهورية عن ولاية ألاسكا ليزا موركوفسكي، في حالة من عدم التصديق أن الكثيرين من زملائها لا يستوعبون أن هذه كانت معركة خاسرة.
بيد أن هذا ليس شعور رئيس مجلس النواب جون بوينر، الذي قاد الحملة ضد «أوباما كير». وبعد التوصّل الى التسوية الموقّتة، قال: «خضنا معركة من أجل قضيّة عادلة، لكننا لم نكسب»، واعداً بمواصلة العمل لمنع «الكارثة المتمثّلة بالقانون المتعلق بإصلاح النظام الصحّي».
ويصف الباحث في شؤون الحكم في معهد بروكينغز بنيامين ويتز، الكونغرس الأميركي الحالي بأنه أخطر على الأمن القومي الأميركي من تنظيم «القاعدة» في هذه المرحلة. فالكثير من المحلّلين والرأي العام ينظر الى الجمهوريين اليوم بأنهم اختاروا هدفاً لم يستطيعوا الوفاء به، ألا وهو حرمان قانون «أوباما كير» من التمويل. وقد عبّر السناتور ماكين عن ذلك قائلاً إنه «كان على الجمهوريّين أن يفهموا بأننا خسرنا هذه المعركة. وكما توقّعت قبل أسابيع بأنه لن يكون في إمكاننا الفوز بأمر غير متاح التحقيق». وذهب زميله الجمهوري غراهام أبعد من ذلك حين قال: «لقد ذهبنا أبعد مما ينبغي. لقد أُطحنا».
وينعكس الأداء الجمهوري تراجعاً ملحوظاً في شعبيّة نواب الحزب. وبحسب إحصاء لشبكة «إي بي سي نيوز» وصحيفة الـ«وول ستريت جورنال»، فإن سبعين في المئة ممن استطلعت آراؤهم، يرون أن الجمهوريين في الكونغرس يضعون أجندتهم السياسية الخاصة أمام ما هو خير للبلاد. وأظهر الاستطلاع تراجعاً متزايداً في شعبيّة «حزب الشاي»، الذي يعتبر الجناح المتشدّد في الحزب الجمهوري. وقال 47 في المئة إن لديهم مشاعر سلبيّة تجاه أعضاء الحزب، وبين هؤلاء من قال إن شعوره «سلبي جدّاً»، بينما قالت نسبة 21 في المئة فقط إنها تنظر بايجابيّة الى هؤلاء.
واستناداً الى استطلاع أجراه معهد «بيو» للاستطلاع، فإن 74 في المئة من الناخبين المسجّلين، يرون أنه يجب عدم إعادة انتخاب معظم أعضاء الكونغرس الحاليين في الانتخابات النصفية التي ستجرى في العام 2014، مقابل 18 في المئة قالوا إنه يجب إعادة انتخابهم. وإذا ما قورنت هذه النسبة بتلك التي أجريت في العامين 2010 و2006، فإن نصف الناخبين المسجّـلين آنذاك كانت تحبّذ إعادة انتخاب أعضاء الكونغرس. ووجد الاستطلاع أن الديمقراطيّين يتمتّعون الآن بتقدّم بنسبة 6 في المئة على الجمهوريّين. وقالت نسبة 49 في المئة إنها ستصوّت لمصلحة المرشّحين الديمقراطيّين مقابل 43 في المئة لمصلحة المرشّحين الجمهوريين.
وبات واضحاً أن الجمهوريّين لم يكونوا يملكون أي فرصة للفوز في المواجهة.
وكلّ ما كانوا يعوّلون عليه هو إخافة الرئيس ودفع الديمقراطيين الى التراجع عن قانون «أوباما كير». لكن أوباما وزعيم الديمقراطيّين في مجلس الشيوخ اكتشفا مناورة الجمهوريين، مما ترك هؤلاء من دون خيارات. ولم تكن مغامرة الجمهوريّين بمثابة مردود سلبي على الولايات المتحدة ككلّ، وإنما أيضاً ارتدّت سلباً على الحزب الجمهوري الذي تعرّى من الأهداف والتكتيكات والنيّات. وقد لا يكون من السهل على الناخبين نسيان ذلك في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2014. ويفتح الوضع الذي آلت إليه الأمور الآن الباب أمام عودة الديمقراطيّين لاستعادة الغالبية في مجلس النواب.
وتبقى التسوية التي تمّ التوصّل إليها موقّتة، لأنها تتيح بضعة أشهر فقط للفريقين للتوفيق بين مواقفهما في شأن الموازنة. وستدعى لجنة من المجلسين لتضع قبل 13 كانون الأول (ديسمبر) المقبل، أطر موازنة للأشهر المتبقّية من العام 2014، إلا أن أعضاء الكونغرس المنقسمين بين ديمقراطيّين وجمهوريّين أبدوا حتى الآن عجزهم عن إيجاد أرضية تفاهم.
وارتدّ الشلل في الادارات الفيديرالية خسائر كبيرة على الاقتصاد الأميركي. وقالت وكالة «ستاندرد أند بورز» للتصنيف الإئتماني، إن الشلل سيكلّف النموّ الاقتصادي الأميركي تراجعاً بنسبة ٦ نقاط مئوية في الربع الأخير من العام، أي ما يساوي خسارة 24 مليار دولار من الثروة المنتجة. أما وكالة «موديز» فقالت إن الاتّفاق بين الجمهوريّين والديمقراطيّين جنّب البلاد «كارثة»، لكنها توقّعت تراجع النموّ خلال الفصل الأخير بخمسة نقاط مئوية، مما سيلحق ضرراً «محدوداً» في نهاية الأمر. وتضاف الى التكلفة الاقتصادية، الزيادة في العائدات على سندات الخزينة على المدى القريب الذي سيزيد بدوره أعباء خدمة الدين على الحكومة الأميركية.