أهم الأراء
ماذا لو قبلنا الآخر؟
القصة غرائيبية ومذهلة وعصية على التصديق. لكنى أرويها كما سمعتها. قابلته فى أحد المؤتمرات الطبية فى الخارج. أخبرنى أنه جراح تجميل من «البوير» البيض فى جنوب أفريقيا. وحين أبديت دهشتى بدا وكأن هناك فكرة تضغط على أعصابه. قال فى اقتضاب إنه يشعر بالعار من سلالة أجداده. فى الأيام التالية تعمقت صداقتنا. كان بشوشاً فى معظم الأحوال! لكن القسوة كانت تشوب ملامحه حينما يأتى الحديث عرضاً عن سياسة التفرقة العنصرية. وشرعت أتأمله محاولاً فهمه. شعرت بأن وراءه حكاية يود أن يرويها. وكأن هناك عبئاً على ضميره يود أن يتخلص منه! خصوصاً ونحن غريبان نوشك أن نفترق ولا يرى أحدنا الآخر. ورفعت إليه عينين ودودتين، وطلبت منه أن يروى ما عنده. حدجنى فى اهتمام وكأنه يختبر الثقة، ثم قرر أن يتكلم. ولمدة ساعتين لم يتوقف. حدثنى عن تاريخ أجداده. ودهشتهم حين وصلوا لجنوب أفريقيا. رسم لى صورة رائعة عن الوديان الخضراء وقطعان الغزال والزراف والحيوانات البرية. كانت المقارنة ممتنعة بين هولندا الباردة وهذه الجنة فى الأرض بجوها المعتدل طوال العام. وهكذا قرروا أن يستعمروها. وبدا عليه الاشمئزاز لوهلة. وتعكرت السماء الصافية فى عينيه الزرقاوين. قال إن السلب دائماً يرتبط بالقسوة. لأنك لا يمكن أن تأخذ ما ليس لك وتعامل ضحيتك بود فى الوقت نفسه. ولكن لا بد أنه تجرده من إنسانيته أولاً قبل أن تسلبه ما يملك. وهكذا شهدت جنة الله فى الأرض أبشع ما يتخيله إنسان من القسوة العنصرية. قال فى تأثر: نحن لا نختار نطفتنا. للأسف كنت سلالة هذه الأجيال القاسية. كان هذا يضغط على ضميرنا بشدة. وقررنا نحن ثلة من المتطهرين أن نعالج القسوة بالقسوة. شرعنا نكون مجموعات صغيرة من البيض الرافض للفصل العنصرى، ورحنا نقتل أكابر مجرميهم بعد أن نعذبهم. من المؤسف أن الجرائم كانت تُنسب للسود فى نهاية الأمر فتزيد من عذابهم. وسكت قليلا وكأن الذكرى تنهكه. لحظتها أبديت معارضتى. قلت بوضوح إن هناك معضلة أخلاقية. هل يجوز لنا استخدام الشر لمحاربة الشر أو حتى عقاب الشرير؟ التمعت عيناه الزرقاوان فى ثقة وهز رأسه مؤكداً. قال فى غموض إنه برغم القسوة غير العادية التى عامل بها «جيمس»، فإنه لا يشك أن ما فعله أخلاقى. وشرع يروى لى الحكاية الغرائبية. قرر أن يستخدم مهارته كجراح تجميل فى الانتقام من «جيمس»، صاحب المزرعة الذى يعامل السود بقسوة. خطفناه وأوثقناه بالحبال وتم تخديره وهنا بدأت العملية. قلت فى دهشة: «أى عملية؟». قال فى قسوة: «عملية تجميل عكسية». حولته إلى رجل أسود. غيرت من شكل ملامحه، فرطحت أنفيه بالقدر المطلوب بالضبط ليبدو كالزنوج. وشرعت فى صبر أزرع جلد رجل أسود. اثنتا عشرة عملية تطلبت مجهوداً شاقا ورعاية فائقة. لكن النتيجة كانت مبهرة. وتحول جيمس إلى أفريقى أسود. هنا أطلقت سراحه. كان يمكننى أن أقتله لكنى أردته أن يتعذب. هذا هو انتقامى الأشد. جعلته يتعرف على حياة الرجل الأسود ويتجرع مرارتها. وسكتُ. ولم يعد هناك ما يقال! وشرعت أفكر فى أحوالنا بمصر ورفض كل منا للآخر. المسلم والمسيحى. الإخوانى والليبرالى. ابن الريف وابن المدينة! وتخيلت شعور كل إنسان لو استيقظ ذات يوم فوجد نفسه قد تحول إلى رجل من الفريق الآخر! ترى كيف سيفكر؟ [email protected]