أهم الأراء
نحن الأغلبية.. ولكن
وقبل أن أسهب فى شرح جوانب حلم الثورة- الدولة الجديدة- دعنى أجب عن السؤال الذى يشهره فى وجوهنا القائمون على الدولة منذ 2011: «من أنتم؟»، ليس هذا بسؤال استفهامى بقدر ما هو استنكارى، يتهمنا بأننا أقلية، نخبة مثقفة، أبناء مدن مترفون يشغلون أنفسهم بشعارات الحرية والديمقراطية، فى حين ترزح أغلبية الشعب تحت وطأة الفقر والجهل والمرض. وكلما ألححنا فى مطالبتنا بـ«تغيير النظام» زاد إصرار القائمين على الدولة أن مطالبنا منفصلة عن هموم غالبية الشعب الذى لا يريد سوى العيش والفول وأنبوبة البوتاجاز. ثم جاء الإخوان إلى سدة الحكم، ورغم أنهم شاركونا المطالبة بدولة جديدة لعام ونصف العام، فإنهم ما إن تسلموا مفاتيح الدولة حتى التفتوا إلينا ورددوا كلام من سبقهم.. أننا نخبة منفصلة عن هموم الناس. بل وأضافوا تهمة جديدة لنا حين عارضناهم هم وسياساتهم الفاشلة.. أننا نعارض الإرادة الشعبية. وأقول للطرفين إنهما مخطئان، وإن أنصار الثورة هم الأغلبية. أنصار الثورة ليسوا فقط علاء عبدالفتاح أو أحمد دومة وغيرهما من «الثوريين» الذين يعتقلهم كل نظام أملاً منه فى «إعادة الاستقرار» وإنهاء المطالب والغليان السياسى- دون جدوى، ولا «ائتلاف شباب الثورة» أو أعضاء حزبى الدستور والمصرى الديمقراطى. أنصار الثورة لا يقتصرون على من شارك فى مظاهرات واعتصامات يناير وفبراير، بل يشملون كل من تعاطف معهم أو أيدهم أو حتى شاركهم الأمل والحلم وهو قاعد فى بيته. كل هؤلاء، الذين حلموا بقيام دولة جديدة تحل محل الدولة البالية التى تخنقنا، هم شركاء فى حلم الثورة وأنصار لها، سواء اقتصر حلمهم على التعاطف أو امتد إلى المشاركة الفعلية بكل أشكالها، من التصويت فى الانتخابات حتى الاعتصام فى ميدان التحرير. بهذا المعنى، فإن أنصار الثورة يشملون الموظف الذى ملّ من الفشل الضارب فى وزارته: الفساد، والظلم فى توزيع المكافآت المالية، والعمل الفارغ من المضمون الذى يضطر للتظاهر بأدائه، وهدر الإمكانيات والفرص والموارد الذى يشاهده يوما بعد يوم، والراتب الوهمى الذى يتقاضاه والذى يجبره على السعى لاستكمال دخله من مصادر أخرى، غالبا بالمخالفة لما يحب ويرضى. أنصار الثورة يضمون صاحب العمل، صغيرا كان أو كبيرا، الذى تخنقه البيروقراطية المرتزقة من رزقه، والتى تفشل وتُفشل مسعاه. أنصار الثورة يضمون المرأة المعيلة التى تهرسها مؤسسات الدولة.. تارة بالتجاهل، وتارة بقواعد يستحيل عليها التواؤم معها. أنصار الثورة يشملون ضابط الشرطة المطحون بين ظروف عمل غير آدمية وقانون وقواعد لا تطبق إلا بشكل انتقائى وعلى من لا يستطيع حماية نفسه. أنصار الثورة يضمون أناسا من كل الفئات والطبقات والمهن، ممن ضجوا من فشل الدولة ومؤسساتها فى حمايتهم وحماية مصالحهم ورزقهم وكرامتهم وحريتهم. كل هؤلاء يحرك وجدانهم ويلهمهم حلم واحد مشترك يهفون إليه سرا أو علانية: وهو أن يجدوا أنفسهم فى دولة تعمل بكفاءة وبشكل منطقى وعادل وإنسانى. كل هؤلاء يقيسون السياسات والسياسيين بقدرتهم على تحقيق هذا الحلم أو جزء منه. أنصار الثورة، أنصار حلم الثورة، أغلبية إذاً فى هذا البلد، وموجودون فى كل أركانها: فى الشارع وفى البيوت، فى القطاع الخاص وداخل مؤسسات الدولة، بما فيها تلك المسماة «السيادية». نحن الأغلبية يا سادة، ونريد التغيير، ونريد أن يكون هذا التغيير عميقا وجذريا، ولن نقنع أو نرضى حتى نراه قد بدأ. المشكلة، ما يفصل بيننا وبين بداية تحقيق الحلم، أننا نفتقر لحزب أو تنظيم ما يجمعنا ويعبر عن رؤانا بصدق، ويكافح من أجل تحويلها لحقيقة. هذه هى أزمتنا وأزمة الثورة وأزمة عملية الانتقال وأزمة الحكم فى مصر. افتقارنا التنظيم لا يعنى أننا بلا حول ولا قوة. فنحن كسحابة من الغاز المنتشر فى الهواء، أى شرارة تشعلنا وتشعل المكان كله. وبالتالى فنحن قادرون على إفشال أى نظام: سواء بعدم تأييده وتركه يواجه تحديات الحكم وحده حتى يسقط تحت وطأة فشله، أو بالنزول للشوارع والإطاحة به. لكن سحابة الغاز هذه تحتاج تنظيما: تحتاج شبكة من الأنابيب كى تحولها لأداة ضغط وإشعال بشكل خاضع للتحكم. ليس لدينا شبكة الأنابيب هذه: لا حزب ولا تنظيم، ومن ثم لا نستطيع- بعدُ- أن نحول رغبتنا العارمة فى التغيير وبناء دولة جديدة إلى قوة سياسية تضع نظاما فى الحكم وتقوده نحو تحقيق الغاية المنشودة. نحن الأغلبية.. لكننا سحابة بلا أيد وأذرع وأدوات. لن يستقر حكم فى مصر لا نرضى عنه ونؤيده ونتعاون معه، لكننا غير قادرين على تنظيم أنفسنا، بحيث يمكننا ترجمة قوتنا إلى برنامج حكم وقدرة على تنفيذه. وهذا هو التحدى الذى يواجهنا: إما أن ننشئ شبكة أنابيب تنظم قوتنا وتكون أداتها فى الحكم، أو أن نظل سحابة من الغاز تنفجر من وقت لآخر، نحن والبلد كله معنا.