أهم الأراء
شمس الدين وقمره
يُحكى أن بيضة نسر تدحرجت من فوق قمة جبل، لكن حمتها الرعاية الإلهية من أن تتحطم. تلقتها الصخور والهضاب بحنان حتى هبطت إلى الأرض بسلام عند عش دجاجة. ظنت الدجاجة أنها بيضتها فشرعت ترقد فوقها وترعاها. وحين خرج النسر الصغير من البيض، وسط عشرات الكتاكيت الأخرى، لم تفطن الدجاجات أنه مختلف. لكن الفرخ الصغير كان يعرف أنه بوسعه أن يحلق. منذ نعومة أظافره كان «شمس الدين التبريزى» يعلم أنه مختلف. منذ طفولته وهو يرى رؤى ويسمع أصواتا، وكل رؤاه تتحقق. وفى بعض الأيام يصعد إلى السماء السابعة بخفة شديدة ثم يهبط فى أعمق حفرة فى الأرض. لكننا نستطيع أن نتوقع أن هذا الاختلاف كان يثير حيرة الآخرين وانزعاجهم، وبالأخص والديه. هجر شمس الدين التبريزى وتحول إلى درويش يتنقل من مكان إلى آخر. طوّف شرقا وغربا، باحثا عن الله، عالما أنه داخله. سلك جميع أنواع السبل. سار فوق الشطآن المهجورة. مشى فى دروب منسية لا يطرقها بشر. أقام فى خانات، وزار معابد وأضرحة، وتأمل مع النساك فى الكهوف، وشارك الدراويش مجالس الذكر، ورقص مع السحرة تحت القمر. اكتسب معارف كثيرة احتفظ بها داخله. حفرت المعارف أخاديد عديدة داخل روحه. اكتملت المعارف قاعدة بعد قاعدة حتى بلغت أربعين قاعدة للعشق الإلهى. لحظتها أدرك أن رحلته على الأرض شارفت على الانتهاء. لقد ظلت دودة القز تنسج الحرير فى صبر ودأب حتى اكتمل تشرنقها. اسمه شمس وهو يحمل نصيبا من اسمه. لابد لهذه الشمس المتوهجة أن تبعث الحرارة فى كوكب بارد. وتوالت الرؤى أنه سيلاقى رفيقا ينقل إليه هذه المعارف. وقتها سيتحول هذا الرفيق إلى شاعر صوفى وداعية للتسامح، وهاد للباحثين عن الله إلى سبل الحب الإلهى. ولكن من هو؟ لا يدرى. كل ما كان يراه هو لمحة من المستقبل، لحظة مقتله بالذات، ورفيقه/ صديقه يسكن الحزن فى عينيه البندقيتين إلى الأبد، ويصرخ ملتاعا على فقدان أنيس روحه. ولم يكن يعرف وقتها أن توأم الروح يسكن بتركيا، واسمه «جلال الدين الرومى». ............... بالنسبة لجلال الدين الرومى كان الأمر يختلف. لم يكن مثل شمس الدين التبريزى صوفيا غريب الأطوار، وإنما عالم شريعة مبجل، محبوب من الجميع، يحظى بالتقدير أينما ذهب. عالم يجيد استخدام الكلمات، لكنه لا يستخدم استعارات كثيرة، لأنه ليس بشاعر. كان مثل علماء الدين التقليديين، لكنه كان يتمتع بشىء خاص: قدرته على الغوص وراء المظاهر واستخلاص الجوهر. كان الرومى بالرغم من نجاحه وروعته لا يشعر بالرضا عن نفسه. إذ يعتريه شعور بالفراغ يتمدد داخله. إذ ينقصه «شىء ما» يجعله يتوهج. كان مشروعا جليلا لكنه لم يكتمل بعد. كأس مترعة إلى الحافة لكنها لا تفيض. جسم مستدير ينتظر انهمار النور من الشمس لكى يتحول إلى قمر. وتوالت الرؤى أن عليه أن يبحث عن شمسه الخاصة. وقتها يلتقى النهران ويتحولان إلى نهر واحد يصب فى محيط العشق الإلهى. هما مرآتان صافيتان متقابلتان تعكسان بعضهما إلى ما لا نهاية. وبعد كثير من البحث المحموم، والتضرع إلى الأقدار، رأفت السماء بكليهما، والتقى فى الله العاشقان: شمس التبريزى وجلال الدين الرومى. (نكمل غداً إن شاء الله).